
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، برزت تصريحات متكررة من مسؤولين إسرائيليين وسياسيين غربيين تروج لما يسمى: "الخيار الإنساني" المزعوم، أي تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء أو دول الجوار، تحت ذريعة الحفاظ على أمن إسرائيل، وإنقاذ المدنيين من الحرب.
لكن هذه الدعوات، التي تُقدم في ثوب إنساني، ما هي إلا امتداد لسياسة تطهير عرقي قديمة، تنقضها الأعراف الدولية، وتكذبها الحقائق على الأرض، وتفضحها النوايا المعلنة من قبل أطراف إسرائيلية رسمية وغير رسمية.
أولًا: الادعاء الأمني... غطاء جديد لمخطط قديم
يقول الاحتلال: إن وجود المدنيين في غزة "يعيق العمليات العسكرية"، وإن "تفريغ الشريط الحدودي" أو أجزاء من القطاع "ضرورة لحماية الجيش الإسرائيلي" من هجمات المقاومة.
لكن الواقع أن أمن الاحتلال لا يتحقق بتهجير السكان الأصليين، بل بإنهاء الاحتلال ذاته. فالقانون الدولي لا يجيز أبدًا نقل السكان قسرًا تحت أي ذريعة أمنية، حتى في حالات النزاع، كما نصت اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 49) التي تحظر "الترحيل الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة".
وليس خافيًا أن هذه المطالبات تتقاطع مع ما ورد في وثائق إسرائيلية مسربة خلال الحرب، كشفت نية بعض الجهات السياسية دفع المجتمع الدولي لقبول "خطة ترحيل سكان غزة إلى سيناء"، تحت مسمى "إعادة التوطين".
ثانيًا: تجربة النكبة... تتكرر
ما يجري اليوم هو صورة مكررة من نكبة 1948، حين أُجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم تحت نيران العصابات الصهيونية. واليوم، بعد مرور أكثر من 75 عامًا، يريد الاحتلال أن يعيد السيناريو نفسه في غزة، لكن هذه المرة تحت عنوان: "الملاذ الآمن".
لكن الفلسطينيين، رغم الحصار والقصف والجوع، قالوها بوضوح: لن نخرج من غزة، ولن نكرّر نكبة جديدة. خرجت التظاهرات، ورفعت اللافتات في المخيمات، تقول: "نموت في غزة ولا نرحل"، في إشارة إلى وعي الشعب الفلسطيني بما يحاك له.
ثالثًا: الكارثة الإنسانية لا تبرر التهجير
من المثير للسخرية أن بعض الأصوات الغربية تدعو لتهجير سكان غزة باعتباره: "الحل لتخفيف الأزمة الإنسانية"، متجاهلة أن هذه الأزمة من صنع الاحتلال ذاته:
• أكثر من 70% من مباني غزة دمرت أو تضررت.
• 1.9 مليون فلسطيني نزحوا داخليًا في ظل قصف لا يميز بين مدني ومقاتل.
• تدمير المستشفيات والمدارس والأسواق ومصادر المياه والطعام.
التهجير هنا ليس "حلًا إنسانيًا"، بل جريمة مركبة، تبدأ بالقصف وتنتهي بالطرد القسري، وتُلبس عباءة الرحمة زيفًا.
رابعًا: موقف القانون الدولي واضح
تؤكد هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية أن أي محاولة لتهجير سكان غزة خارج حدود القطاع تعتبر جريمة حرب. كما حذرت الأمم المتحدة مرارًا من مغبة دفع الفلسطينيين قسرًا إلى الخروج من أراضيهم، مؤكدة أن الحل يكمن في وقف العدوان ورفع الحصار، لا في "إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا بالقوة".
" توياما" وتهجير أهل غزة
في الحرب العالمية الثانية قامت الطائرات الأمريكية بتدمير مدينة توياما اليابانية، وقد أشارت وثائق الحرب العالمية الثانية إلى أنه "في ساعات الفجر الأولى من يوم 2 أغسطس عام 1945، شنت 182 قاذفة أمريكية هجومًا، وألقت 1400 طن من القنابل الحارقة على ضواحي توياما؛ مما أدى إلى حرق المدينة وتدميرها بالكامل".
لا يمكن التفريق بأي حال من الأحوال بين مشاهد الدمار الواسع التي تتدفق من غزة لحظة بلحظة، وبين الصور المفجعة التي وثّقت حال مدينة توياما اليابانية عقب قصفها بالقنابل الحارقة الأمريكية عام 1945. وقد استعرضت هذه المأساة الكارثية الصحفية اليابانية المستقلة هامادا نامي في تقرير بعنوان: "تاريخ لا يُمحى"، نشره موقع نيبون دوت كوم، حيث ضم مشاهد توثق حجم الألم الذي خلفه القصف، إلى جانب صور أخرى لا تقل مأساوية.
اللافت في هذه الشهادة التاريخية، أنه لم تُسجل أي دعوات آنذاك تطالب بترحيل سكان توياما أو إجلائهم إلى مناطق أو دول أخرى، بانتظار إعادة إعمار المدينة أو استعادة الحد الأدنى من الحياة فيها. أهل المدينة ظلّوا متشبثين بأرضهم رغم الجراح والخراب، تمامًا كما يتمسك الفلسطينيون اليوم بتراب غزة، مدفوعين بإيمانهم وعقيدتهم، وبنفس العزيمة الوطنية التي سكنت قلوب اليابانيين آنذاك.
غزة، التي عانت – وما تزال – من عدوان إسرائيلي متوحش استمر أكثر من عام ونصف، كانت دومًا صخرة تتحطم عليها كل مؤامرات التهجير القسري. لقد فشل الاحتلال في تهجير سكانها منذ كان عددهم لا يتجاوز 300 ألف خلال العدوان الثلاثي عام 1956، وكرر الفشل ذاته بعد نكسة يونيو 1967، حين راهن من جديد على كسر صمود الغزيين.
ورغم المجازر التي أودت بحياة ما يزيد عن 150 ألف شهيد وجريح – غالبيتهم من الأطفال والنساء – ورغم الحصار والتجويع وغياب أدنى مقومات البقاء، لا يزال الفلسطينيون ينظرون إلى غزة باعتزاز كبير باعتبارها رمزا للصمود والمقاومة، وهي بالنسبة لأهلها، برغم الحرب والدمار والخراب والتجويع، أغلى وأحب من أي وعود كاذبة، ولقد صدحت أصوات أهل غزة من تحت الأنقاض: "نريد الحياة في وطننا بكرامة ".