
في زمنٍ يكثر فيه الحديث عن الحقوق، ويقل الحديث عن الواجبات، تبرز ظاهرة خطيرة تنخر المجتمعات بهدوء قاتل وهي التهرب من المسؤولية.
إنها ليست مجرد عادة سلبية، بل خيانة للأمانة، وتفريط في القيم التي قامت عليها حضارات وأمم.
فما هو التهرب من المسؤولية؟ ولماذا يُعد خطرًا يهدد الفرد والمجتمع؟ وهل من موقف للإسلام تجاه هذه الظاهرة؟
التهرب من المسؤولية... صورة من صور الضعف
إن التهرب من المسؤولية هو التنصل من أداء الواجبات أو تحميلها للغير، سواء داخل الأسرة، أو في مكان العمل، أو على مستوى الدولة.
أن تعلم أن عليك واجبًا، ثم تختار عمداً أن تتجاهله، والنتيجة: تفسخ في العلاقات، تفكك اجتماعي، وفشل جماعي.
عندما يتهرب الأب من مسؤولية أبنائه، أو المعلم من واجبه في التربية والتعليم، أو الموظف من أداء عمله، ينهار البناء شيئًا فشيئًا.
من الناحية الشرعية فإن مسؤولية الإنسان عهد وعقد مع الله تعالى، وقد جعل المسؤولية أمانة عظيمة، وحمّل الإنسان تبعاتها، يقول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.(سورة الأحزاب: 72).
هنا تتجلى خطورة المسؤولية: ليست مجرد خيار، بل اختبار، والتهرب منها ظلم للنفس وجهل بعواقب التفريط.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم المسؤولية مناطًا للمحاسبة يوم القيامة، فقال:"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته...".(رواه البخاري ومسلم).ليس هناك أوضح من هذا الحديث: لا مكان للتهرب. أنت مسؤول... وستُسأل.
من صور التهرب من المسؤولية في حياتنا اليومية
- الأب الذي ينشغل عن تربية أبنائه، ويظن أن المال وحده يكفي.
- المدير الذي يلقي الأخطاء على موظفيه، ويتهرب من المحاسبة.
- العامل الذي يتقاعس عن أداء مهامه، متذرعًا بالحجج الواهية.
- الشاب الذي يهرب من الالتزام، مفضلًا اللهو على بناء مستقبله.
- كل هذه الصور، تتراكم لتصنع مجتمعًا هشًّا، يفقد ثقته بنفسه.
ثمرات التهرب من المسؤولية
عندما ينتشر التهرب من المسؤولية، تظهر نتائج مدمرة، منها:
- ضياع الأُسرة وتفككها:
إن الوالدين هما القائدان الطبيعيان للأسرة، وحين يتهرب الأب من مسؤوليته في التربية والتوجيه، أو تتخلى الأم عن دورها في الرعاية والاحتواء، يفقد الأبناء القدوة التي يهتدون بها، ويتيهون في دروب الضياع.
إن التهرب من المسؤولية داخل الأسرة يشبه صدعًا صغيرًا في جدار قوي... قد يبدو غير مهم في البداية، لكنه مع الوقت يكبر ويتسع حتى ينهار البناء كله.
فالمسؤولية ليست تفضُّلًا من أحد أفراد الأسرة على الآخر، بل هي عقد شرعي وأخلاقي أمام الله أولًا، ثم أمام المجتمع.
وبالالتزام بالمسؤوليات، نحمي أسرنا، ونبني جيلاً قادرًا على حمل أمانة الحياة.
- انهيار المؤسسات والمجتمعات:
تفشل المدرسة حين يتهرب معلموها من دورهم، وينهارالمستشفى إذا أهمل أطباؤه وموظفوه مهامهم، وتضعف الدولة عندما يتهرب المسؤولون من واجباتهم. ومع كل حالة تهرب، تنكسر لبنة من لبنات البناء الاجتماعي.
- انتشار الظلم والفساد:
عندما لا يتحمل كل فرد مسؤولياته، ينتشر الظلم.
المسؤول يتخلى عن المحاسبة، العامل يهمل في عمله، القاضي لا يعدل... فتعم الفوضى، وتضيع الحقوق.
ضعف القيم وفقدان الثقة:
المسؤولية تبني الثقة، والهروب منها يهدمها.
حين يتخلى الإنسان عن دوره، ينكسر الرابط الذي يجمعه بالآخرين. يصبح محل شك وريبة، وينهار أساس التعاون المجتمعي.
ويكفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة".(رواه البخاري ومسلم).
غش الرعية، والتهرب من واجبك تجاه من حولك، ليس مجرد خطأ بشري... بل جريمة روحية تؤخر صاحبها عن الجنة!
كيف نعالج هذه الظاهرة؟
من الممكن معالجة هذه الظاهرة بالعديد من الأمور، ومنها:
- غرس قيمة الأمانة منذ الصغر: تعليم الأطفال أن كل تصرف مسؤولية.
- القدوة الحسنة: أن يكون القائد والأب والمعلم أول الملتزمين.
- التذكير بالمحاسبة الأخروية: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}(الصافات: 24).
- التحفيز على الإتقان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".( رواه أبويعلى والطبراني).
عندما يدرك كل إنسان أن عمله ليس مجرد مهمة دنيوية، بل عبادة ومسؤولية أمام الله، سينهض بالأمانة، ولن يجد في قلبه مكانًا للتهرب.
المسؤولية شرف... وليست عبئًا
التهرب من المسؤولية هروب من الرجولة الحقيقية، ومن الإنسانية السوية.
المسؤول الحقيقي لا ينتظر التصفيق، ولا يخشى اللوم...
هو يعلم أن أعين الناس قد تغفل، لكن الله ليس بغافل.
فلتكن مسؤولياتنا شرفًا نحمله، لا عبئًا نفر منه.