
ثمَّة مقولات تُروى عن الصَّحبِ والسَّلف، عليها وهجٌ من آثارِ النُّبوة، كأنهم ألهموها إلهامًا، أو كأنَّ القلبَ نطَقَ بها قبلَ اللسان، وغالبًا ما يكون هذا الصِّنف من المقولاتِ موجزًا، محْكَمًا، لا يحتملُ الإطالة، يقرأها القارئ للمرةِ الأولى فتعْلَق بروحه، وتصبح مما يستذكره القلبُ واللسان، بل وتتحول إلى نصٍّ ذاتيٍّ خالصٍ لا يأبه بالنِّسيان، يكبر المرء، يمرض، يشيخ، وتبقى في ذاكرته كجزءٍ باقٍ لا يقبلُ الانفصال عن صاحبه، وأيّ نصٍّ أو مقولة شَقَّت طريقها نحو المتلقي، فانفعلَ بها وتأثَّر، فقد حقَّقت مظانها، وباتت خالدة لا يعفِّي النِّسيان آثارها.
ولعلَّ من أهمِّ المقولات الموجزة التي ينطبقُ عليها ما سَلَفَ ذكره، ما ورَدَ عن الخليفةِ الرَّاشد، عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، المدرك الواعي لحقيقةِ النَّص القرآني، وكماله، المتبتِّل في محرابِه، النَّاهل من فيوضِ أنوارهِ. عاشَ معَ القرآن مصاحبًا طيلةَ حياته، ما شبعَ منه، ولا اكتفى، وقد شرَّفَه الإله بأن جعله أحد الأمناء الذينَ اصطفاهم لمهمَّة حفظِ كتابه، ولما أتته الخلافة لم تشْغله عن القرآن؛ بل زادَت من تعلُّقه به، ولمَّا حاصَره أهل الفتنةِ، جلَسَ في بيتهِ -وهو ابن ثمانية وثمانين عامًا، متخَفِّفًا من الدُّنيا، وهو السَّري الثَّري- لا شاغلَ له إلا القرآن، لا يزيده الحال الذي نزَلَ به إلاَّ قُرْبًا منهُ وتعلُّقًا به، ولما قُبِضَ، كانَ المصحفُ بينَ يديه، ليكونَ العناقُ الأخير بينَ النَّص المتعالي والمتلقي الطَّاهر، ولما أفاضوا في ترجمته، قالوا عنه: "فما مَاتَ حتى خَلِقَ مصحفُه من كثرةِ ما يديم النَّظَرَ فيه"، فهل ثمَّة نموذجٌ أعلى وأسمى من هذا التَّعلق الوجدانيِّ المدهش في حياةِ الخليفة القرآنيِّ الراشد؟
المقولة العثمانية
قال عثمان رضي الله عنه: "لوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعَتْ مِنْ كَلاَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وقد علَّقَ الإمام ابن القيم (ت751هـ) بقوله: "فالقلبُ الطَّاهر لكمالِ حياته ونوره وتخلّصه من الأدران والخبائث لا يشبَعُ من القرآن، ولا يتغذَّى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته".
ولا أرى أن نمرَّ على هذه العبارة مرورًا عابِرًا، فهي كاشفةٌ لجوهرِ العلاقة بينَ القلبِ والقرآن، وميزانٌ لا يقبلُ التَّطفيف، وقاعدة مطَّردة لا تحتملُ الاستثناء، ومعادلة روحيَّة تجمعُ بينَ طهارةِ القلب والامتلاء بكلامِ الله، وكلمةٌ نُورانيَّةٌ جامعة وضعت الأمرَ في حاقِّ موضعه، صَدَرت عن قلبٍ محبٍّ تشرَّبَ النُّورَ وأبصَرَ الطَّريق، وتَلْمَذَ لنبيٍّ عَظيم، وهبهُ من أنوارِه المشرِقة.
ولو تأمَّلنا حالنا مع النَّصِّ الإلهيِّ الخالد، لألفينا أنفسنا قد استسهلنا حقيقة "الدُّستور الربَّاني" الذي باتَ كإرثٍ مقدَّسٍ يُذكَرُ عندَ الفجيعةِ برحيلِ أحدهم، أو يُسْتَفْتَحُ به اليوم تيمُّنًا بصوتِ قارئهِ البَديع، أو يُشْرعُ بهِ في المحافِل كتقليدٍ نمطيٍّ، وهكذا، تمضي الحياة بنا دونَ نَظَرٍ واستمساكٍ بالكتابِ المتعالي المعْجِز الذي أنزَلَهُ اللهُ للإنسان، لينْعَمَ به، ويقبسَ منه ما تستقيمُ به الحياة!
وقد أدركَ الرَّاشد "عثمان" عظمةَ النَّص المنزل، ومكانته، فربَطَ ربطًا وثيقًا بينَ طهارةِ القلبِ وصلاحه، وبينَ التَّعلق وإدمان النَّظر فيه. ولعلكَ رأيتَ يومًا كبارَ السِّنِّ الذينَ يقضونَ حياتهم مطرقي الرُّؤوس في تلاوته؛ تكاد تلمسُ بيديكَ شيئًا من ضياءِ القلبِ المرتسم على صفحةِ وجوههم، لأنهم حقَّقوا المعادلة قدرَ استطاعتهم، صلحت القلوب، وطابت الأرواح، وتعلَّقوا بكلامِ الإله، فهبَطَت الأنوار!
ولعلَّ هذا الارتباطُ الوثيق الذي أشار إليه عثمان رضي الله عنه، متحقِّقٌ في شهرِ القرآن، شهر رمضان، فإقبال النَّاسِ على كتابِ ربهم، نابعٌ من صلاحٍ طَرَأ في القلبِ، من إفاقةٍ، من نيةٍ صادقة للتَّخلصِ من الأوضار، والآفاتِ، والأكدار، من تفكيرٍ بالعودةِ إلى الله؛ وجماعُ ذلكَ يدفعُ الإنسانَ للالتفاتِ إلى القرآن، والانكباب عليه، باعتبارهِ المعبر الأول عن الإيمان، وصلاح القلب وحياته!
كأني بعثمان أرادَ بكلمته: أنَّ القلبَ الطَّاهرَ يشبهُ صفحة ماء نقيَّة، إذا أُلقيت فيها كلمات الله تردَّد صداها حتى آخر قطرة، في حين أنَّ القلبَ الملوَّث يشبهُ بركة آسنة، يضيع فيها النَّدى بلا أثر. وكأني به أراد أن يلفتَ النَّظَر إلى أنَّ طهارةَ القلب مفتاحٌ لرؤيةِ الحياة بمنظورِ القرآن، فإنَّ من طهرت قلوبهم لا يملونَ الإقبالَ عليه، والتَّعلق به، والبحث عن أسراره، وفتوحاته، والتَّعرض لهباته، لأنه ليسَ نصًّا جامدًا في نظرهم، بل حياة نابضة تُثري أرواحهم كلما غاصوا في معانيه.
وطهارة القلب ليست خلوّه من الحقدِ والحسدِ فحسب، بل هي حالة صفاءٍ روحي، يرتقي فيها الإنسانُ عن ثقلِ الشَّهوات وتعلقهِ بالدُّنيا، إنها عملية متواصلة من التَّنقية، والتَّحلية، والتَّهذيب، حيثُ يصبحُ القلب مرآة تعكسُ الحقائقَ الإلهية دونَ غبش. وإني أَفهمُ طهارة القلب بأنها التَّخلصُ من العوالقِ الماديَّةِ والنَّفسية التي تحجبُ القلبَ عن إدراكِ عظمة كلامِ الله، إنها نقاءُ النِّية، والصَّفاء في القصدِ، والسُّمو عن الدَّنايا، والارتفاع بأمرِ الله، مما يمكِّن القلب من التَّفاعل العميق مع النَّص القرآني.
إذن، نحن أمام معادلةٍ صارمةٍ بينَ طهارة القلب وصلاحه، وبينَ التَّعلق بالنَّصِّ القرآني، معادلة جليَّة تستطيعُ أن ترى موقعكَ منها من حالكَ معَ القرآن! وإني كلما أردتُ أن أقفَ على حالي، نظرتُ إلى وضعي وموقعي من الكتابِ العظيم، فإن كانَ حبلُ الوصلِ بيننا مبتور، أدركتُ مكمَنَ الخلل الذي أربكني وأضعفني، فأسارعُ في غمسِ قلبي في نهرِه العَذْب!
وقد بدا لي أنَّ الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة:79)، قد استشفَّ وعبَّ من معاني كلمةِ الرَّاشد عثمان، وذلكَ في قوله: "تشير الآية إلى عملية الوصول إلى المعنى، وليسَ اللمس الحسي كما ذهبَ إلى ذلك بعض الفقهاء. وإنما مسُّ المعنى المكنون والوصول إليه، وقد وضع الله تبارك وتعالى كلمة: {المطهرون} بصيغة اسم المفعول؛ لكي ينبه إلى أنَّ عملية التَّطهير تجري من الخارج، يعني المطهَّر هو من طهَّره غيره. ذلك يعني أنَّ المطهَّرين هم أولئك الذين طهَّرهم الله تبارك وتعالى وهيَّأ عقولهم وقلوبهم ووجدانهم للمسِ معاني القرآنِ الكريم والوصولِ إليها. ولا يخفى عليكَ ربطه فعلَ التَّطهير بتهيئةِ العقولِ والوجدانِ؛ للوصولِ إلى مرامي القرآن، ومقاصده، ومعانيهِ العزيزة".
نعمة القراءة والفهم
ومما يحسُنُ الإلماعُ إليه في هذا المقامِ أن نُعِيدَ التَّذكيرَ بنعمةِ اللسان العربيِّ، أي القدرة على فَهْمِ المسطور ولو بالحدِّ الأدنىٰ. كثيرٌ منَّا لا يدركُ نعمةَ اللسان الذي تنزَّلَ بهِ النَّصُّ الإلهي، ولو رأيتَ عشَّاقَ القرآن ممن لا يجيدونَ العربيَّة كيفَ تحترقُ قلوبهم شوقًا، ولهفة، وأملًا لتلاوتهِ كما ينبغي أن يُتلىٰ، لذبتَ خَجَلًا! وكم من صعوباتٍ يواجهها الأعجمي، عند قراءته القرآن، أمَّا الشُّعور بالعجزِ فأمرٌ لا يُوصَف، وهذه ضربٌ من النِّعَمِ التي لا نُدْرِكُ جلالها، لأنَّ الأمرَ أتانا عَفْوًا، صَفْوًا، لم نمد فيه يدًا، ولا خضنا فيه غمرة، ولو سألتَ أعجميًّا لكانَ أسمى مطالبه أن يُفتَحَ له في كتابِ الله قراءةً وفهمًا.
كانت معلمتي للغةِ التركية، لا تنهي الدَّرس إلا بتلاوةِ أحد الطُّلاب للقرآنِ الكريم، بيننا طالبٌ عراقيٌّ حَسَن الصَّوت، كان يقرأ القرآن؛ لتدخل المعلمة في حالةٍ من حالاتِ التَّجلي والارتقاء، لا نعرفها، ولا نشعرُ بها، رأيتها يومًا تلملمُ ما بقي من بللِ العين، وسألتها مرة: هل تجيد قراءة القرآن؟ فأجابتني بالدَّمع!
لنتذكر أنَّ مجرَّد النَّظر إلى القرآن، وقراءته، والقدرة على فهمه، ومحاولة الوقوف عند قوانينه، وحِكَمه، وأنواره؛ نعمةٌ عظمىٰ، قتلها عاملُ الإِلف، والاستسهال، والغفلة، والغرق في نمطيةِ الحياةِ ومشاغلها، ولو علمنا ما وراءها من فضلٍ عظيمٍ لما طابَ لنا الهجران، والبُعْد، ولنعلم أنَّ المقولة العثمانية ليست جملة عابرة، بل خارطةُ طريق للعلاقة المثلى بينَ القلبِ وكلام الله، حيثُ الطَّهارة بداية، والشّبع غاية، والقرآن هو الزَّاد.