الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أتخلص من الوساوس التي لا تأتيني إلا عندما أزاول عملًا مفيدًا؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في البداية أشكركم على جهودكم الرائعة، وخاصةً في باب الاستشارات.

سؤالي عن مرضي بالوسواس القهري، لم أكن أعرف أني مريضة به، وكنت أستغرب من الأفكار الغريبة التي كانت تجيء لي.

لقد بدأت معي من وأنا في المرحلة الابتدائية، وكانت وسواسًا في النظافة، واستشعار أني مصابة بأي مرض أسمع به، لأني أفكر فيه، وبعد هذا في المرحلة الإعدادية أصابني وسواس في الدين، وكان فيه اسم في الديانة المسيحية عالقًا بذاكرتي، ليلاً ونهارًا يلازمني، وكنت أحاول أن أتخلص منه، ولم أعرف كيف، وبعد هذا زادت الأفكار الوسواسية في الدين.

وفي الصف الأول الثانوي جاء لي وسواس العيون، وزاد معي، وأصبح يتشكل بأنواع كثيرة، وبقيت أراقب الناس وهم يأكلون، وأنظر إلى عوراتهم، والأشياء الخاصة بهم، ولأي حاجة تجعل من يشاهدني يأخذ فكرةً سيئةً عني، فأصبحت أخاف المشي في الشارع، وخاصةً عندما يكون بجانبي شاب، فيظن أني أنظر إليه، وحتى في العلاقات الاجتماعية، وقد أتعبني ذلك جدًا؛ فأنا حساسة جدًا، ولماحة.

وعندما أذاكر لا أستطيع التركيز على السطر الذي أقرأ فيه، ويذهب نظري للسطر الذي فوقه أو تحته، وبالتالي لا أستطيع التركيز ولا الحفظ، ووساوس كثيرة لا تظهر إلا عندما أصلي أو أذاكر، أو أقابل الناس، وقد نزل مستواي الدراسي بعدما كنت أحلم بأن أدخل الطب.

أنا أحاول أن أقترب من ربي أكثر حتى يقف جنبي، وأحاول أن أذكر نفسي بمميزاتي؛ حتى لا أكره حياتي ونفسي.

وكلما أخبرت أهلي بشيء، وأني محتاجة لطبيب نفسي فإنهم يرفضون ولا يصدقونني، فذهبت لدكتورة في كليتي من دون علم أهلي، وأعطتني علاج اكتئاب، وقالت لي: بأن لدي وسواس بسيط، ولكنها لا تشعر بما أعانيه؛ فكل حاجة أعملها في حياتي تتشكل بعدة صور وسواسية، ويشمل ذلك حياتي كلها.

تقدم لخطبتي ابن خالي، وجلست أفكر في الموضوع أكثر من شهرين، ولا أعرف كيف أتخذ القرار؛ فكل المشاعر الجميلة ذهبت عني، كما أنني أخشى أن يكرهني بسبب تصرفاتي، ووساوسي، وأن أظلم أولادي في المستقبل.

أحتاج لمساعدتكم، وجزاكم الله كل خير عني، وعن كل من تساعدوهم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأود أن أبدأ وأقول لك: أنت بالفعل تعانين من وساوس قهرية، والوساوس القهرية منتشرة وموجودة، وهي تتفاوت في شدتها، وفي حدتها من إنسان إلى آخر، وأعتقد أنه من المفيد أن أوضح لك ما هي الوساوس؟

الوساوس: هي عبارة عن أفكار ثابتة، أو نزعات، أو خيالات، أو أفعال، أو طقوس، أو مخاوف، أو اجترارات يعرفها الشخص تمامًا على أنها غير مفهومة، وليس لها معنى، ويقتنع اقتناعًا تاماً أنها سخيفة، ولكن نسبةً لطبيعتها المتكررة، وبما أنها تقتحم كيان الإنسان، وعقله، ومزاجه، لذا تؤدي إلى الكثير من الإزعاج، والشعور بالكدر، والكرب، وبالاكتئاب، وكثير جدًا من مرضى الوساوس يعتقدون أنهم على حافة الجنون، أو أن عقلهم قد ذهب، وهكذا، وهذا ليس صحيحًا أبدًا.

والوساوس قد تتشكل، وتتغير، وتتبدل، وتتلون؛ فقد تأتي فكرة وسواسية معينة، وتستمر لوقت معين، وتعقبها بعد ذلك فكرة أو فعل آخر، وهكذا، وهنالك الكثير جدًا من التداخل في هذه الأفكار، أو الأفعال، أو الطقوس الوسواسية.

وحقيقة الوساوس تكون ناشئةً من البيئة، مما اكتسبناه من بيئتنا من معارف، ومعتقدات فيما يخص علاقاتنا الاجتماعية، وعلاقاتنا العامة، وهذه هي الوساوس القهرية، وهنالك بعض الأشخاص لديهم استعداد للإصابة بهذه الوساوس أكثر من غيرهم، ويوجد ما يمكن أن نسميه بالشخصية الوسواسية أيضًا، وهي شخصية مدققة، وكثيرة الانضباط، والشكوكية بعض الشيء، ولا تقبل إلا بالنظم الدقيقة، وهكذا.

أعتقد أنك تعانين من وساوس قهرية، وقد بدأت معك منذ فترة، وكما تشاهدين فإنها قد تشكلت، وتلونت، واختلفت من موضوع إلى آخر، وهذا هو التاريخ الطبيعي للوساوس، كما أن الوساوس تكثر في مثل عمرك؛ حيث إنها تبدأ غالبًا في فترة اليفاعة، وتستمر بعض الشيء في زمن الشباب، ثم بعد ذلك قد تختفي لتظهر مرةً أخرى، ولكن بالطبع العلاج يساعد كثيرًا في القضاء عليها.

أرجو أن تكوني قد تفهمت الوساوس وطبيعتها، وفي اعتقادي أن هذا الشرح البسيط سوف يفيدك كثيرًا.

ما ذكرته لك طبيبة الكلية أنك تعانين من وساوس بسيطة، أعتقد أن الطبيبة حاولت بالطبع أن تطمئنك، وأنا أقول لك: نحن كأطباء نقتنع تمامًا أن الوساوس مزعجة؛ لأنها تقتحم كيان الإنسان، وتزعجه كثيرًا، ولكنها ليست خطيرةً.

وبالنسبة لعلاج الاكتئاب الذي وصفته لك الطبيبة: فكل الأدوية التي تستعمل في علاج الوساوس القهرية هي في الأصل أدوية تستعمل أيضاً لعلاج الاكتئاب النفسي، وهذا ليس بالمستغرب، وإجراء الطبيبة من هذه الناحية صحيح، ولكن كان من المفترض أن تشرح لك أكثر.

بالنسبة لخطوات العلاج:

أولاً: يجب أن تتفهمي طبيعة حالتك، وقد قمنا بشرح ذلك لك، وأرجو أن تقتنعي أن هذه مجرد وساوس فقط.

ثانيًا: الوساوس تعالج بما يعرف بالتعريض، أو التعرض، مع منع الاستجابة، أي أن يعرض الإنسان نفسه للفكرة، أو للفعل، أو للاجترار الوسواسي دون أن يستجيب استجابةً سلبيةً.

مثلاً الذين يعانون من الخوف من الأوساخ، هنا الإنسان يعرض نفسه لبعض الأوساخ، ولا يقوم مثلاً بغسل يديه، أو يغسلها بعد فترة، وبكمية معقولة من الماء، وللمدة المعقولة.

هذه التمارين السلوكية تتطلب التكرار، وتتطلب الصبر، وحين يبدأ الإنسان في العلاج السلوكي قد يحس بشيء من القلق الزائد، ولكن بعد ذلك يبدأ هذا القلق في الانخفاض والاختفاء -بإذن الله تعالى-.

أنا أنصحك أن تكتبي كل فكرة وسواسية تعانين منها، أو كل فعل وسواسي، وبعد ذلك حقري هذه الفكرة، وهذا الفعل، وقاوميه، وواجهيه، وقولي لنفسك: (أنا لن أتبع هذا الوسواس، سوف أحقره، ولن يمثل في حياتي أي شيء).

بالطبع إذا استطعت التواصل مع أخصائية نفسية، وليست طبيبة نفسية، فسوف تساعدك أيضًا في تطبيق ما نسميه بالبرامج، والعلاجات السلوكية، والتي تقوم على نفس المبدأ الذي أوضحناه لك.

يأتي بعد ذلك العلاج الدوائي، وأقول لك: أن العلاج الدوائي مهم جدًا، وتوجد أدوية فعالة جدًا.

الأدوية المضادة للوساوس هي نفس الأدوية المضادة للاكتئاب، ومن ميزة هذه الأدوية أنها تسهل للإنسان كثيرًا الانتظام في البرامج السلوكية التي تؤدي إلى تعديل السلوك الوسواسي، واستبداله بالسلوك السوي.

من أفضل الأدوية التي نصفها في مثل حالتك:

- دواءً يعرف تجاريًا باسم (بروزاك Prozac)، ويسمى علميًا باسم (فلوكستين Fluoxetine)، فأرجو أن تبدئي في تناوله بجرعة كبسولة واحدة في اليوم، ويفضل تناولها بعد الأكل، استمري عليها لمدة شهر، ثم بعد ذلك ارفعي الجرعة إلى كبسولتين في اليوم، واستمري عليها لمدة ستة أشهر، ثم خفضيها إلى كبسولة واحدة في اليوم لمدة ستة أشهر أخرى، ثم بعد ذلك توقفي عن تناول الدواء.

يتميز البروزاك بأنه سليم، وآمن جدًا، وغير إدماني، ولا يؤثر أبدًا على الهرمونات النسوية، كما أنه لا يحتاج في معظم الدول لأي وصفة طبية، ويمكنك أن تسألي عنه تحت مسماه العلمي، وهو فلوكستين، حيث إن اسمه التجاري قد يختلف من بلد إلى آخر.

وأنا أعتقد أنك إذا تحاورت مع أهلك مرةً أخرى، وعرضت عليهم هذه الاستشارة التي قمنا بالإجابة عليها، فهذا سوف يجعل أهلك يتفهمون طبيعة هذه الحالة، ويساعدونك أيضًا في الشروع في العلاج.

أيتها الفاضلة الكريمة: لا أرى سببًا يمنعك أبداً من الإقدام على الخطوبة؛ فهذه الحالة لا تمنع ذلك أبدًا، وأسأل الله لك التوفيق في هذا الأمر.

أرجو أن تركزي على دراستك، وأن لا تجعلي الوساوس والقلق المصاحب لها يصرفك عن أهدافك، وأهدافك بالطبع أن تكوني من المتميزات، وأن تحصلي على أعلى الدرجات -بإذن الله تعالى-.

أنصحك بالدعاء، والإكثار منه، والاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وأن تتخيري الصحبة الطيبة، وأن تديري وقتك بصورة صحيحة، ولا تتركي أي مجال أو فراغ لهذه الوساوس، وضعيها تحت قدميك وحطميها، وسوف تعيشين حياةً طيبةً وسعيدةً -إن شاء الله-.

نشكر لك تواصلك مع إسلام ويب، ونسأل الله لك الشفاء والعافية.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً